يوم ذرفت عينايّ الدموع!
ليس من عادتي البكاء، فقليلة هي المواقف أو الأحداث التي أبكي فيها، ولكنّي عندما أبكي لا أخجل بهذا البكاء لأنّه بكاء صادق،
نابعٌ عن إحساس مُرهف، وعاطفة جيّاشة، وموقف مؤثّر.
صحيحٌ أنّ تراثَنا لم يورد الكثيرَ من المواقف والأحوال التي بكى فيها الرجالُ، واعتبر البكاءَ حكرًا على النساء والأطفال،
وعابوا على الرجال البكاء؛ فهذا الشاعر جرير يقف حزينًا مغمومًا عندما توفّيت زوجتُه، ورغم حزنه وغمّه لم يبكِ عليها،
ولم يزر قبرَها حياءً وأنفةً، وقد قال في ذلك:
لَولا الحَياءُ لَعادَني اِستِعبارُ - وَلَزُرتُ قَبرَكِ وَالحَبيبُ يُزارُ
وَلَّهتِ قَلبي إِذ عَلَتني كَبرَةٌ - وَذَوُو التَمائِمِ مِن بَنيكِ صِغارُ
بكيت واغرورقت عينايّ بالدموع يوم خطّ يراعي كلماتٍ مقتضبةً جافّة موجّهة للسكرتاريّة التربويّة في وزارة التربية والتعليم
أُعلنُ فيها قراري "الخروج للتقاعد" بعد أن قضيتُ 42 عامًا في مهنتة التربية والتعليم عملتُ فيها معلّمًا ونائبَ مدير في المدارس الثانويّة،
ومفتّشا مركّزًا لموضوع اللغة العربيّة وآدابها في المدارس العربيّة، ومفتّشا مشرفًا على إعداد مناهج وكتب التدريس في الموضوع لجميع
المراحل التعليميّة (الابتدائيّة، الإعداديّة والثانويّة)، بالإضافة إلى ذلك مارستُ خلال هذه السنوات العملَ محاضرًا في كليّات ومعاهد إعداد المعلّمين وتأهيلهم.
اثنتان وأربعون سنةً في سلك التربية والتعليم مرّت كلمح البصر!
لم أكن أتوقّع أن تمرَّ السنون بهذه السرعة!
يا إلهي، كيف تتسرّبُ الأيّامُ والأعوامُ من بين أصابعنا!
نحن نكبر... والأبناء والطلّاب يكبرون ويتخرّجون ...
إنها سُنّةُ الحياة.. عجلة الزمن تدور... والراية تنتقل من جيل لآخر!
يومها شعرتُ أنّني أُنهي مرحلةً هامّة من حياتي، مرحلةَ العطاء والنماء والتجدّد!
بكيتُ لأنّني اعتقدتُ أنّ "الحياة بلا عمَل عبءٌ لا يُحتمَل"!
بكيتُ لأنّني رأيتُ في العمل مصدرَ راحتي وسعادتي!
بكيتُ لأنّني ظننتُ أنّني أحقّق ذاتي، فقط، في العمل!
بكيتُ ليس حزنًا على دخلٍ ماديّ، فالحمدُ لله حقوقي مضمونة براتب التقاعد والتأمين، ولكن بكيتُ لأنّني سأفتقدُ متعةَ ممارسةِ عملي الرسميّ
الذي كنتُ، وما زلتُ، أعتبرُه رسالةً ساميةً مقدّسةً قبل أن يكونَ مهنةً أعتاشُ منها!
يومها، شعرتُ بالألم والحزن لأنّ " التقاعد " سيبترُ ذلك الإيقاعَ المنتظم الذي تعوّدتُ عليه سنواتٍ عديدةً؛ فلن أكونَ ملزمًا ببرنامج عمل يوميٍّ محدّد،
ولن أتمكّنَ من الالتقاء بزملائي وزميلاتي في العمل أو طلّابي الذين أمدّوني بالأمل والفرح!
لم أفكّر حينها أنّ الخروج للتقاعد من عملي في سلك التربية والتعليم هو الانتقال لمحطّة أخرى!
والحمد لله، يمكنني القول إنّني وجدتُ أنّ هناك "حياةً" أخرى بعد التقاعد، حياةً ثريّة وممتعة مستمدًّا من تجاربي ومعارفي زادًا
وقوّة أستطيعُ فيها مواصلةَ العطاء والنماء والتجدّد!