قراءة نقدية لنص :
أربعة أنخاب في صحة الأصدقاء،،،
للشاعر نزار عوني اللبدي
* * *
...و في ثورة العقل عند الإنسان بشكل عام تأتي المصائب فرادى وقد تمضي وقد لا...عند الإنسان الشاعر ثمة ما يستفز الحاسة الخاصة في الخلايا الدفينة في بقايا الذاكرة مثلما يستفز ذكرياتها ، لا بل ينتجه هذا الشاعر قيما عليا ، بكل ما تحمل العبارة من معنى ؛ حكمة وعبرة ووفاء وصبر ...ثم كيفية اتخاذ قرار وأسس ذلك...وكأني بالناص يقول : " يامااااه مرقوا من باب هالدكان " !! تمر هذه الذكريات مثل برق يتبعه رعد ..ولا بد من موقف جرح هذا الشاعر فأتت الأنخاب في صحة الأصدقاء ..معنى نخب المتعارف عليه : أخذ احسنه وأفضله أي ما هو مختار بعناية...غير أن ثمة ألفاظ يختلف معناه بحسب نسبة الفعل مثال : نخبته الحياة أضعفته وأنهكته...!! وثمة مزيد غير أنه يقدم الأنخاب دونما ضعف لا بل يزداد قوة ؛فما المستفز المشتغل عليه ، وهل ثمة رابط بين الأربعة ، وووو...؟ لنرى معا لن نستبق الأمر في وضع نتائج وبين يدينا النص :
النخب الأول
...تناص عجيب مدهش ، واتكاء على الموروث الشعري القديم و النص القرآني الكريم في سورة يوسف عليه السلام " :
يقول وقد باعوه بخساً وأدلجوا
وأحسن ظنـّاً، ثم بان له الأمرُ:
(سيذكرني قومي إذا جدّ جِدّهمْ)
تبدأ لمسة ريشة الشاعر برسم الصورة الأولى القديمة في رحلته معهم؛ بيد أنها ملهمة عارفة في بعدين : ما هو كائن (وأحسن ظنا ) وما سيكون ( سيذكرني قومي إذا جدّ جِدّهمْ) في قصيدة أبي فراس الحمداني غير أن التناص هنا مبتكر مشتغل عليه في قلب ما اعتادت عليه الناس ففي العادة يقال : وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر؟ فما دلالة ذلك ؟ ولماذا بدأ بسيذكرني ..؟ هي أسئلة أعلقها وأجيب عليها لاحقا بحوله تعالى ...ولنفهم رسم الصورة الأولى نقرأ :
وأضحك من قولٍ يخالطه القهرُ
تعزّى به المسكين يوماً وليلةً
وداوى به جرحاً يعمّقه الدهرُ
يقول، وقد ظنَّ الطريقَ تردُّهم:
(وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدرُ)
من المسكين الذي تعزى ...وهل جاء ظن الطريق تردهم من باب حسن ظنه كما رسم ذلك في بداية النص ؟ هنا يضرب الشاعر أول الرعد الذي جاء بعد البرق :
ولم يدرِ أنَّ الليلَ بعضُ ظلامهمْ
وألطفَ شيءٍ في خِلالهمُ الغدرُ... وهذا خيط خفي قد يربط النصوص الأربعة بعضها ببعض...فهل ينتج قيمة عليا من قيمة دنيا وضيعة كالغدر؟ ربما سنرى ...
النخب الثاني
في النخب الثاني أظن أن الشاعر أجاب على بعض ما علقت من أسئلة ‘ واختار تقنية المونولوج لمراجعة حاضره الذي يعيش الآن ، يحاور نفسه ويصرح بقوته وقدرته على تجاوز هذه القطيعة من الأصدقاء ، ويشير بخيط خفي إل خيبته بهم ، غير أن هذه الخيبة تزيده قوة على قوة ؛ ويصور نفسه بشجرة السنديان التي وإن قطعت بعض غصونها ،ازدادت قوة وشموخا...ثم يقرر بأن هذه التجربة معهم فيها عزاء يصنعه على هيئة سلوى ، ذلك أنهم كانوا متسلقين " عوضي بوجه الله عن ركبٍ تفيّأني وأنكرني وغابْ !! " وأقول نعم العوض عوض الله عنهم...إذن نحن إزاء صورة مبتكرة ومقلوبة في آن ؛ مبتكرة من حيث ما أدته من غرض فني يناسب المقال والمقام ، ومقلوبة في بعدها بحيث أعادتنا للنخب الأول في صورة ((وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدرُ) فالابتكار والقلب في الصورة يأتي في غير بعد : أشرت كيف تلاعب الناص بالبيت الشعري فلم يقل سيذكرني قومي إذا جد جدهم / وفي هذا دلالة سيمائكولوجية من حيث عدم حاجته لهم ، وبعد استنطاقي لدواخل الآخر وكأنه يقول : أنتم من يحتاجون لصداقتي ودلالة ذلك ذكاء الناص بأن أتى بعجز البيت ( وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر ) نعم الجمع من يفتقد حاجته للضوء وتمام البدر وهنا قلب لم تعودت عليه الناس من الاستشهاد بصدر البيت :
ليكنْ، فإني ليس ينقصني طموحُ الريح أو صبرُ الترابْ
ليكنْ، فإني قد يعزّيني شبابُ الشيبِ عن شيب الشبابْ
ليكنْ، فإنْ ثـُكِلتْ غصون السنديان بهم، وإن عزَّ المصابْ
عوضي بوجه الله عن ركبٍ تفيّأني وأنكرني وغابْ !!
النخب الثالث
في النخب الثالث يلخص الناص الحكاية بطريقة أخرى مائزة تميل إلى فلسفة الموقف (ساكنُ الصمتِ لا يمنحُ اليومَ للعابرينَ مفاتيحَـهُ) فالصمت حكمة وساكنه عراف فيلسوف يدرك جيدا قيمة البعد الخامس ، و لا يتوقف عند خيبة أو نقطة زمنية معينة ، وقد لا حظنا ذلك في النخب الثاني " فإني قد يعزّيني شبابُ الشيبِ عن شيب الشبابْ" ثم إنه في النخب الثالث يفلسف النص على مراده , وواقع تفكيره ، كيف لا وهو يتخذ من الصمت والتأمل مسكنا له / ساكنُ الصمتِ / وقد كررها في النخب الثالث أربع مرات ، وعند كل تكرار كان يضيف معنى جديدا ، حركة جديدة فهو أي ساكن الصمت :
1- ينبت ليمتد حتى أن يديه مفتوحة للعصافير..وما أجملها من صورة!!
2- يسكنه من خلال رحلة بحث قدس أقداسه ، وينتقي ما يفيديه ويدرك غدر العابرين .
3- لا يمنح مفاتحيه للعابرين خلسة من بوابته وأظن أن ثمة إشارة لأدعياء الإبداع..
4- في الوقت المناسب يخرج عن صمته ، وينطق بقناعته غير عابىء بهم...
أربعة تكرارت شكلت حركة خفية بالتلازم مع عبارة / ساكن الصمت / هذه الحركات شكلت إبقاعا داخليا من نوعين ؛ إيقاع سمعي خارجي تناغم مع الإيقاع البراني / مجمل التفعيلات وإيقاع داخلي غير سمعي / صوتي تناغم مع مضمون ورسالة النص :
ساكنُ الصمتِ ينبتُّ من شرفة الوقتِ
يمتدُّ في لحظة البتِّ ينتابه الصوتُ
ينشر أكمامَهُ للعصافيرِ
ساكنُ الصمتِ
- في رحلة البحثِ عن قـُـدسِ أقداسهِ -
يتملـّى صحيفةَ أيامهِ،
ويـنـقـّي عباراتِـها
من كثيرين لم يركبوا في سياق الكلامِ
كما ينبغي
ساكنُ الصمتِ لا يمنحُ اليومَ للعابرينَ
مفاتيحَـهُ
ساكن الصمتِ يخرج عن صمتهِ
وليهُـنْ بعدها من يهـونْ!
النخب الرابع
النخب الرابع يؤكد تصريحا ما قد ذهبنا إليه في بداية النص ؛ وأقصد الخيط الخفي الذي يربط النصوص والأنخاب الأربعة ، فالناص وإن قدم أربع لوحات ، وبتفعيلات مختلفة ، إلا أنه حكى على ذات وجع الرسالة في خيبته مع الأصدقاء ، وقد يسأل سائل : لِمَ لمْ يضع هذه الرسالة في قصيدة واحدة ؟ أقول إنها فلسفة بناء التزمت بكل ما يتعلق بالشعر الموزون ، غير أن شاعرنا لجأ إلى التجديد في البناء ، ليعطي لنفسه تجريب أكثر من صوت ، ضمن المساحة المتاحة له مع المتلقي ، ثم إن تجريب أكثر من صوت يعطي إيقاعا موسيقيا جديدا في هندسة البعد البوليفي للنص وتجلى ذلك في النخب الرابع ، حيث نجد صوتا جديدا للناص وكأن شاعرا جديدا دخل للنص يحمل ذات البصمة والهوية ؛ فهو يترك لهم الجمل بما حمل ذات رحلة ، لتمتد الرؤيا في الذات والأفق الرحب ، كاشفا لم خفي ، موضحا ما آل إليه من فلسفة خاصة ومنهج حياة ، منهيا نصه بحكمة من لدن حكيم مجرب ذاق مرارة الوجع :
أيـُّـهذا المؤمـِّلُ الصحبَ يوماً
ليـس منهم لديكَ شـروى نقيــرِ !
بَـْيـدَ أنّـي، وقـد عـقـرتُ بـعـيري
لرفـاق الطـريـق، ذاتَ مسـيـرِ
لم يعدْ لـي في الدربِ غيرُ حوافٍ
منـهكاتٍ، تـدمى، وما من مجـيـرِ
فـإذا ما طــلـبــتُ ظـــِلاًّ ومـــاءً
لوّح الرمـلُ لي بكأسِ الهجيــرِ
واستماتتْ في السمتِ شمسٌ شموسٌ
تصهر الصبرَ في قلوب الصخورِ
وتمطـّى في الأفـقِ اُفـقٌ وأُفـقٌ
وتحـدَّتْ صُــحارُ كُــلَّ جَسـورِ
وتـناهـى إلـيَّ صـوتٌ جـريـحٌ
خـدَّشَ الصمتَ في خشوعٍ كسيرِ :
أيـُّـهذا المؤمـِّلُ الصحبَ يوماً
ليـس منهم لديكَ شـروى نقيــرِ !
وثمة ما يقال حول هذا النص ...
كنت مع نص حكمة واع عميق مشتغل عليه في خبايا الذات بستحق الاحترام والتقدير ...يحفظك الله ويرعاك وعينه تحرسك..
وعذيركم تقصيرنا
شكرا لك
رائع أنت
مودتي